طيب ليه؟
الناس اللى ماسكة مقاليد الحكم فى البلد لا يقل عمر أى فرد منهم عن ستين سنة. تعتقدوا ربنا هيطول فى عمرهم قد إيه؟ وماذا سيحدث لهذا البلد حين يصبحوا غير قادرين أو غير موجودين أساسا؟ لماذا هذا التجريف لكل ما هو جميل ونبيل فينا؟ لماذا يخلقون ويكرسون جوا وأوضاعا تدفع الناس دفعا إلى الشراسة والبلاهة والابتذال والاتكال؟ لماذا يُيَئسون الناس من المنطق ومن العدالة ومن الحق؟ ما الذى يسوى كل هذا؟
آلاف الشباب محبوسون ظلما، ومازال الكثير منهم يحكى عن غيره قبل أن يحكى عن نفسه. اقروا جواب أحمد أسامة، المعتقل منذ ٢٥ يناير، والذى يقول فيه «انا هضيع مستقبلك، يحكى لى احد المتهمين ان هذه الجملة قالها احد ضباط مباحث قسم الازبكية له.. لا اعرف اين هو المستقبل فى هذا البلد.. اين المستقبل عندما تدخل قوات الامن الحرم الجامعى وتقتل طلبه (أنقل هذه الجملة ويأتينى خبر إسلام غانم، طالب تالتة هندسة الذى استشهد اليوم فى الجامعة) ــ تقتل طلبة وتسحلهم ولا تفرق بين اولاد وبنات. أليس هؤلاء الطلبة هم المستقبل؟ بل اين هو المستقبل عندما تقرر الحكومة استخدام الفحم فى مصانع الاسمنت؟ الأضرار المخيفة على البيئة من الفحم، وذلك فقط لإراحة رجال الإهمال على حساب شباب هذا البلد.. والشباب فى السجون عن طريق الاعتقال العشوائى بتهمه انه «شاب»، اصبح السن تهمة فى نظر «الباشا». من يدرى ما يمكن ان يحدث لشخص يعتقل عشوائى، يمكن ان تجد نفسك فى محاكمة لا تفهم ما يحدث وتسمع خبر اعدامك مع اشخاص لا تعرف من هم على الرغم من شهرتهم.. ومثال بعض من قصص المعتقلين معنا كمثال رامى مجدى شاب فى الجامعة الفرنسية لا يعرف شيئا عن السياسه وربما لا يعرف شيئا حتى انه لا يعرف من هو حسن حمدى، تم اعتقاله من قهوة فى السيدة زينب وتم ترحيله الى قسم السيدة زينب ثم قرر القسم «إكرام» قسم الازبكية بمعتقل اضافى. رامى واخد سنتين زينا. البشمهندس عز عبده مهندس فى مصر للطيران، قرر النزول الى وسط البلد لشراء طلبية لشركته بأمر من الشركة على الرغم انه لا يمكث فى مصر كثيرا، تم اعتقاله.. على جمال يعمل فى شركته مندوب مبيعات ويشرف على منطقة وسط البلد نزل من الميكروباص فى رمسيس فقام الظابط باعتقاله «عشان شكله مش عاجبه».. هشام عبدالمنصف يعمل فى احد المطاعم المشهورة فى وسط البلد.. تم عرضه على النيابة اول مرة بملابس العمل الرسمية، (فقد) تم القبض عليه من امام مقر عمله.. استطيع ان احكى الكثير.. شباب جامعات فطبيب حاصل على منحة من وزارة الصحة لتفوقه، ولاعب فى ناشئى «المقاولون»، وطالب فى هندسة المنصورة، وايضا «مصطفى السيسى» احد مؤيدى السيسى، وهناك الكثير والكثير ولا يوجد فى القضية حتى سكين، فقط قبض عشوائى لكل من فى القضية وتلفيق التهم وعدم وجود شهود الا الضباط ورفض لشهود النفى.. يعرضنا السجن لأن نفقد انسانيتنا لكنى قد قررت منذ اليوم الاول ان اخرج مثلما دخلت مهما حصل، لا اكثر عدوانية ولا اقل انسانية.. كل ما فى الامر انى افتقد حياتى واصدقائى والجلوس معهم على القهوة ولعب الكرة وافتقد عملى.. افتقد الدورى الانجليزى، افتقد عائلتى اختى وابى وامى واخى.. التجول فى شوارع وسط البلد بعد عملى، افتقد كليتى ومحاضراتى وزملاء الدراسة وافتخر بمديرتى فى العمل لأنها تقف الى جانبى.. لكن تعرفون ما افتقد حقا؟ انه المستقبل الذى لا وجود له..» (٦٨ أزبكية)
(الآن قبضوا على ٦ من أصدقاء إسلام غانم وهم ينتظرون جثمانه عند المستشفى. سيوجهون لهم تهمة قتله).
هل تعرفون أن أعدادا من الشباب لا تجد الآن ملجأ غير «كفاح الأمعاء الخاوية» مثل شباب فلسطين المعتقل فى سجون الاحتلال الإسرائيلى؟ وقد وجه أمس، الأربعاء، عدد من الشخصيات العامة خطابا إلى المجلس القومى لحقوق الإنسان، ليقولوا «نود أن نلفت نظر سيادتكم إلى لجوء العديد من المحبوسين احتياطيا أو على ذمة قضايا إلى آخر وسيلة يملكونها للمطالبة بحقوقهم فى المعاملة الإنسانية والإجراءات القانونية العادلة ألا وهى الإضراب عن الطعام»، ثم خصوا بالذكر شابين، هما محمد سلطان وعبدالله الشامى. وعبدالله الشامى، وهو صحفى كان يعمل مع الجزيرة ــ قبل أن تمنع من العمل فى مصر ــ عمره ٢٤ سنة، قبض عليه فى ١٤ أغسطس وهو يغطى فض اعتصام رابعة، ولم يوجه له أى اتهام إلى اليوم، أى أنه معتقل منذ ٢٦٦ يوما بدون تهمة، فكيف يعقل هذا؟ صبر أكثر من خمسة أشهر ثم دخل فى إضراب عن الطعام، وقام بتحرير ٧ محاضر إضراب رسمية أرسِلت إلى النيابة، فلم تستجب. هل هذه دولة القانون؟ نُقِل عبدالله إلى الحبس الانفرادى، فى سجن العقرب وكتب من هناك: «قصتى ليست قصة فرد واحد وإنما هى عن كل صاحب كلمة حرة، ودفاع عن حق فطرى كفلته كل الشرائع والقوانين.. لست مجرما ولا مخربا، أنا صحفى والصحافة ليست جريمة».
أما الشاب الثانى فيبدو أن ذنبه هو أنه ابن القيادى الإخوانى الدكتور صلاح سلطان. اسمه محمد وعنده ٢٦ سنة. بكالوريوس علوم اقتصادية، مدير التطوير المؤسسى فى شركة خدمات بترولية سابقا. ترك عمله فى أمريكا (وعنده جنسية أمريكية) وجاء مصر فى مارس ٢٠١٣ ليكون إلى جانب والدته حين أصيبت بالسرطان. أتت الشرطة إلى بيتهم فى ٢٧ أغسطس لتقبض على والده ولم تجده فقبضت على محمد وأصدقاء كانوا فى زيارته. تنقل، هو وأصدقاؤه، بين خمسة سجون وأقسام شرطة، عذبوا وضربوا وهددوا بالقتل، حقق معه الأمن الوطنى ــ وهو مغمى العينين ــ عن مكان والده ولم يسألوه أى أسئلة عنه أو عن أصدقائه، وبعد يومين تم إصدار أمر ضبط وإحضار بتاريخ ٢٥ أغسطس وحولوا إلى نيابة أمن الدولة التى حققت معهم فى آرائهم وأفكارهم. ويقول محمد سلطان فى الخطاب الذى قرأه فى المحكمة فى الأسبوع الماضى: «وُجِّه إلينا اتهامات خيالية: الإرهاب وتشكيل عصابى، وقلب نظام الحكم، بدون أى دليل فى محضر التحريات»، وبدون أن يستطيع المحامون الاطلاع على المحضر. عرض عليه الأمن أن يفرجوا عنه مقابل التنازل عن جنسيته المصرية، فرفض. يقول «تفاءلنا لما عرفنا اننا هنتعرض على قاضى تحقيق أخيرا» لكن القاضى جدد لهم الحبس ٤٥ يوما بدون أن يستمع لهم. كان هذا فى ٢٦ يناير، ويومها قرر محمد الدخول فى إضراب مفتوح عن الطعام. وهو يعدد أسبابا كثيرة لهذا القرار نذكر منها: «لأن أمى وأخويا المريض وأختى الصغيرة فى حاجة لمن يرعاهم، لأن فى الخمس شهور الأولى فى مصر كنت بين الشغل ورعاية والدتى ومالحقتش حتى أكون حياة اجتماعية، فضلا عن أى نشاط أو انتماء حزبى أو سياسى، لأن ظابط أمن الدولة حط اسمى واسم أصحابى فى محضر تحريات وبسببه أنا محبوس على ذمة ٣ أكبر قضايا فى مصر، علشان أنا دلوقتى حاسس إن أصحابى المحامى والإعلامى والدكتور محبوسون بسببى، عشان فى العالم كله المتهم برىء حتى تثبت إدانته إلا فى مصر المتهم محبوس احتاطيا حتى تثبت براءته، لأنى فقدت الأمل من وجود أى عدالة فى مصر، لأن كل جهة بإيديها سلطة بشرية شايفانى وبتعاملنى كخصم بدون ما تسمع قصتى، لأنى اتظلمت واتعذبت واتمرمطت وأنا من جيل حر مابيعرفش يدوق أو يشوف الظلم ويقعد ساكت ومايقاومش.. عشان أنا عايز أتبرأ من تهمة الإرهاب دى لأن، ببساطة شديدة يا سيادة القاضى، أنا مش إرهابى، أنا مش إرهابى».
جاءنا ــ وأنا أكتب هذه السطور ــ خبر الحكم بسنتين حبس وغرامة خمسين ألف جنيه على المحامية الشابة ماهينور المصرى لاشتراكها فى التظاهر فى الإسكندرية للمطالبة بحق خالد سعيد. انضمت ماهينور إلى لؤى القهوجى وعمرو حاذق وغيرهما من الشباب المحبوس على ذمة هذه القضية، وماهينور التى لم تترك أى إنسان محبوس ظلما إلا ووقفت إلى جانبه. وقد حثها البعض فى الليلة السابقة على الجلسة على عدم حضور المحكمة تحسبا لهذا الحكم فكتبت: يا ريت كنت أعرف اهرب واستخبى بس الحقيقة مش قادرة.. حاسة انى لازم أواجه.. مواجهة مافيهاش فى ميزان القوى فى مصلحتنا كتير بس مهمة لسلامتى النفسية بالأساس اللى بدات تروح من فترة.. مواجهة عشان لو فى عقاب نستحقه عشان حلمنا بحياة أفضل للبشر ناخده وخلاص».
هذا ما أوصلوا إليه شبابنا، أملنا، مستقبل بلدنا.
وأكتر.. أوصلوا ناشطة باحثة عالمة شابة جميلة ومتفائلة ومحبة للحياة لأن تكتب أن دعاءها الوحيد الآن هو «إن اللى يخلف مايكَفِّنش».
فإن كنتم تظنوا أن المعركة تحسم هكذا، فأنتم مخطئون. فبالرغم من كل شىء، تبقى الحقيقة واضحة: الشعب هو الأساس وليس الدولة. الدولة توجد لتمكن الشعب وليس العكس. والحكومة توجد لتخدم الشعب ــ الموالى منه والمعارض ــ وليس العكس. والشعب يعرف هذا وإن تناساه إلى حين.
كنت أنوى الكتابة عن انتخابات الرئاسة ولم أستطع إلا الكتابة عن الشباب ــ وفى النهاية الموضوعان يتداخلان: بالرغم من الخلفيات التى نعرفها جميعا، هناك فى هذه الانتخابات مرشحان. أحدهما يدخل الانتخابات بثقل وأموال ودعم الدولة القديمة ــ التى قضى حياته فى خدمتها، وهو ملتصق بالنظام الذى يستهدف أبناءنا ويحاربهم ويعذبهم ويقتلهم ــ يتحدث بنبرة النظام وبرؤيته وبسياساته وبمواراته، يرفض مبدأ تطهير المؤسسات لأن كلمة تطهير «تؤذى» المؤسسات (!)، يدعونا إلى الطاعة، ويعدنا ــ إن سكتنا وانتظمنا وسمعنا الكلام ــ بالتقشف الآن والديمقراطية بعد ربع قرن.
والثانى ــ وقد قضى عمره فى معارضة تلك الدولة ــ ينزل إلى الانتخابات وهو يعد بإخراج المحبوسين ظلما من محابسهم، ويعد بتعديل القانون بما يطلق حق التظاهر السلمى، ويتحدث عن إعادة هيكلة الأجهزة وإطلاق طاقات الشباب ليغيروا مسار هذا البلد إلى الوجهة التى تستحقها ويستحقونها. هذا غير أنه ييقدم مشروعات مقنعة، ويعد بمحاربة الفساد، وبوضع أطر تشريعية تطلق الطاقات.. أى أنه يقترب من لغة الثورة بالقدر الذى تسمح به السياسة فى الوقت الحالى.
فماذا أنتم فاعلون؟ الشباب يرون أننا ــ أهاليهم ــ مشاركون الآن فى قتلهم. وأنا لن أشارك فى هذا، لا بالصمت ولا بالتصويت: صوتى لحمدين صباحى. ويسقط يسقط قانون التظاهر، ويسقط الحبس الاحتياطى العقابى، وتسقط الأحكام الجائرة، وتسقط المؤسسات الفاسدة والنظام الفاسد وكل من يحافظ عليه.
[عن جريدة "الشروق" ]